إِلَى أُمِّى: مَا كُنْت أَحَسِب قَبْل دَفْنِك فِى الْثَّرَى ** أَن الْكَوْاكِب فِى الْتُّرَاب تَغُور ... مَا كُنْت آَمُل قَبْل نَعْشِك أَن أَرَى ** رَضْوَى عَلَى أَيْدِى الْرِّجَال تَسِيْر


19 March, 2009

تواضع العلماء ووفائهم .. هما كلمة السر لنبوغهم ... مقال عبرة لشباب مصر الواعد

نعم .. بمشاغلها أخذتنى الحياة .. وإندمجت فى رحلة البحث عن الذات .. لكن دائما الحنين إلى هويتى وثقافتى وتكوينى ينتصر .. ويقودنى إلى وجهتى الحقة ألا وهى التعمق فى دهاليز -القانون- سلطان العلوم

فإستغليت بعض أوقات الفراغ القليلة لدى وروحت أتصفح بعض المراجع القانونية خاصتى. فإستلفت إنتباهى بعض القيم الهامة أثناء قراءتى لمقدمة مرجع "الوسيط فى القانون الإدارى" لأستاذى فقيه القانون الإدارى المصرى الأستاذ الدكتور/ مصطفى أبو زيد فهمى -وزير العدل والمدعى العام الإشتراكى الأسبق. أستاذ القانون العام بجامعة الأسكندرية والمحامى لدى محكمة النقض والمحكمة الإدارية العليا- والذى تشرفت به محاضرا لى فى سنتى الدراسية الثانية بكلية الحقوق جامعة الأسكندرية فى أواخر التسعينات

ودون الإسهاب فى التفاصيل أترككم للتمعن والتمتع بنقل حرفى لمقدمة المرجع سابق الذكر لنرى كيف يكون الوفاء والإخلاص والتواضع من أهم السمات الملازمة للعظماء والعلماء


تصدير

ظهرت الطبعة الأولى من هذا المؤلف "الوسيط فى القانون الإدارى" منذ خمسة أعوام، وقدر لها أن تنفذ سريعا .... وتطلعت دائما إلى إصدار الطبعة الثانية؛ فحالت دون ذلك مشاغل عدة

وإذا كنت قد إخترت أن يصدر هذا المؤلف تحت إسم الوسيط فقد كان ذلك أولا تيمنا بما فعله أستاذنا العلامة الكبير الدكتور عبد الرزاق أحمد السنهورى فى مؤلفه الشامخ "الوسيط فى القانون المدنى" الذى تناول فيه وبإقتدار كبير ولأول مرة فى مصر شرح التقنين المدنى كله

فقد قدر -رحمه الله- أن الوجيز لا يشبع ... وأن المبسوط لا يسعف ... وقال فى كلمته الإفتتاحية التى صدر بها الطبعة الأولى من الوسيط فى القانون المدنى: "إن الوسيط هو الوسط ما بين الوجيز والمبسوط ... تجمله فيصبح وجيزا، وتفصله فيصبح مبسوطا، ومن أجل ذلك؛ فقد إخترت أن أبدأ به فهو أوفى من الوجيز فى سد حاجات العلم والعمل، وهو أدنى من المبسوط للباحث الذى لا يملك سوى وقت محدود"

وهكذا إنتشر "الوسيط" فى شتى فروع الفقه ... فجعله العديد من الزملاء عنوانا وحجما لمؤلفاتهم، وكانت محاولاتهم -فى ظل هذه النظرة بالذات- محاولات فقهية موفقة. "فالوجيز" فى دنيا الفقه لا يشبع، و "المبسوط" لفرط تفصيله لا يسعف الباحث المتعجل فى وقت أصبحت السرعة فيه هى طابع العمل فى كل مكان

وإذا كنا قد أردنا لهذا المؤلف أن يصدر تحت إسم "الوسيط" فإن الوفاء لصاحب هذا الوسيط يدفعنا بقوة إلى بعض الحديث عنه

فأستاذنا العلامة الجليل الدكتور عبد الرزاق أحمد السنهورى نستطيع أن نقول عنه -رحمة الله- ذو الرئاستين

فقد إنعقدت له -رحمة الله- عمادة فقه القانون المدنى فى جيله على كثرة ما إذدحم به هذا الجيل من الأسماء اللامعة. فقد كان -دون منازع- أكثرهم جلدا وأوضحهم فكرا وأغزرهم إنتاجا وأعمقهم بحثا

وجاءته الرئاسة الثانية: فى فقه القانون العام؛ فقد أراد له عدل الله أن يكون رئيسا لمجلس الدولة فى فترة حاسمة من تاريخ مصر إمتدت منذ أواخر العهد الملكى وإنتهت بعد عدة سنين من قيام الثورة. فقد كان -وهو يرأس محكمة القضاء الإدارى- من أكبر رواد القضاء الإدارى والفقه الإدارى. فقد كانت هذه المحكمة يومئذ هى العضو القضائى الوحيد فى مجلس الدولة، ولم تكن قد إنشئت المحكمة الإدارية العليا. فجلس الفقيه العملاق رئيسا لهذه المحكمة، وأصدر العديد من الأحكام الهامة التى إنطوت على مبادىء أساسية فى حماية الحريات العامة وسيادة القانون. وشهد بعد ذلك مولد الثورة فى يوليو 1952، وساهم فى أحداثها بالشكل الذى رأه محققا لأمال أمته

وإذا كانت الثورة -بعد ذلك- قد ضاقت به؛ فأخرج من رئاسة مجلس الدولة، وأبعد عن الرئاسة الثانية؛ فقد كان ذلك فرصة أتاحها له القدر ليعود من جديد إلى الرئاسة الأولى؛ فيعكف طوال السنين الطوال على وضع الوسيط فى القانون المدنى الذى شرح فيه المجموعات المدنية كلها. فكان هذا الوسيط بأجزائه التى زادت على عشرة أجزاء، وصفحاته التى بلغت عدة ألوف مؤلفا خالدا إن كانت الأقدار سوف تكتب -لعمل واحد من البشر- الخلود

ولقد أراد الرحمن لى أن أكون على صلة بذلك العملاق الكبير؛ فإلتقيت به ممتحنا -وأنا يومئذ طالب فى أخر سنى الدراسة فى جامعة القاهرة- وهو يومئذ الوزير العظيم، والأستاذ العظيم ... وإلتقيت به بعد ذلك وأنا أخطو أولى خطوات الحياة بعد التخرج ... وأشهد الله والتاريخ أن ذلك الراحل الجليل: كان إنسانا عظيما قبل أن يكون فقيها عظيما، ووزيرا عظيما

وإذا كان تاريخ الرجال يقول: إن الرجل العظيم هو قبل كل شىء خلق عظيم فإن هذه الحقيقة لا تتجلى فى شخص بقدر تجليها فى هذا الفقيه العملاق. فما أن يقترب الإنسان منه -حتى وإن كان صغيرا فى أول مدارج الحياة- حتى يحس أنه أمام قمة فى الخلق، وقمة فى التواضع، وقمة فى العطاء ... "نفس موطأة الأكناف تألف وتؤلف" ... وصدق الرسول الأمين وهو يقول: إن من كمال إيمان المرء حسن الخلق

وإذا كنا قد تكلمنا عن هذا الفقيه العملاق ببعض ما يستحق فلم يكن ذلك تكريما له بقدر ما هو تكريم لأنفسنا، وتربية لأبناء هذا الجيل من أبنائنا

فنحن نعيش فى زمن يكثر فيه النفاق للأحياء، ولا يعترف المرء فيه بجميل أحد إلا أن يكون هذا الأحد صاحب سلطان أو مصدر نفع كبير ... فما أقل ما نراه فيه من الوفاء ... وما أقل ما نراه فيه من الإعتراف بالجميل

وثمة حقيقة أخرى نريد أن نبرزها فى قوة ووضوح إن شباب هذا الجيل يجب ألا يقرأوا تاريخهم مزورا

ومن هنا فلا يجب أن يقال لهم على الإطلاق أن مصر-فيما قبل ثورة يوليو 1952- كانت كلها سوءا، وفى الرجال كانت كلها عقما

فما أكثر ما إزدحم به تاريخ مصر -قبل الثورة- من رجال تطول هاماتهم، وينتشر إنتاجهم فى كل نواحى الحياة ... وإذا كان صاحب هذا القلم قد قدر له أن يعيش العهدين فإنه يستطيع أن يقول -فى أمانة علمية كاملة- أن الجيل الذى سبقنا نحن- فى الجامعة وفى غير الجامعة- يمكن أن نسميه دون تردد جيل العمالقة. فما أكثر ما ضم من الرجال ... وما أكثر ما أتاه الرجال من مواقف العزة والشموخ

وحسبنا ونحن نعيش فى الجامعة أن نذكر عملاقا أخر إلى جانب العملاق الذى تحدثنا عنه، ونعنى به الأستاذ الدكتور طه حسين

لقد نشأ من صميم الشعب، وأحس دائما بمطالب الشعب، وكان وفيا فلم يخن فى يوم من الأيام قضايا الشعب،

وحسب طلاب القانون وشباب هذا الجيل أن يذكروا له بالفخار الشديد صيحته العاتية: أن التعليم يجب أن يكون متاحا للجميع كالماء والهواء ... إنها إشتراكية التعليم قبل أن ينادى بإشتراكية التعليم النظام السياسى فى عهد الثورة

إنها كلمة وفاء ... تقال إلى هؤلاء الذين ذهبوا إلى لقاء الله ... خالية من أى دافع إلا أن تحمل إلى الملايين من شباب هذا الجيل -فى الجامعة وخارج الجامعة- أن مصر كانت دائما عظيمة بأبنائها ... وأن تاريخها دائما عامر بعظماء الرجال

No comments: