هذا المقال يتناول حرية الإنسان, وهى قيمة عظمى, ولكنها ليست أعظم القيم. فالعدل هو أعظم القيم, والعدل أسمى من الحرية
وقد صك هذه العبارة التى إتخذناها عنوانا لهذا المقال, الأستاذ (أهرنج) أحد أكبر أساتذة القانون فى المانيا فى القرن التاسع عشر
والأستاذ أهرنج لم يكن فيلسوفا, ولكنه كان دارسا جيدا للفلسفة. وهو لم يأت فى هذه العبارة القوية والواضحة بجديد, ولكنه لخص فيها بطريقة بليغة جدا كل ما قاله أكبر فلاسفة القانون منذ أرسطو وأفلاطون إلى اليوم عن العلاقة بين إرادة الإنسان والقانون
وليس هناك موضوع شغل فكر فلاسفة القانون, أكثر من بيان العلاقة بين حرية الإنسان والقانون. فالقانون يحكم إرادة الإنسان ويقيدها ويقومها على مر العصور
والسؤال المهم الذى حاول كل الفلاسفة الإجابة عنه هو لماذا يضحى الإنسان بحريته المطلقة فى أن يفعل ما يشاء, ويقبل الخضوع لحكم القانون, بما يؤدى إلى تقييد هذه الإرادة فى حدود لا تتخطاها؟
والإجابة عن هذا السؤال جاءت فى ثلاث نظريات فلسفية كبرى هى: نظرية القانون الطبيعى لأرسطو, ونظرية العقد الإجتماعى لأفلاطون وهوبز ولوك وجان جاك روسو, ونظرية سلطان الإرادة لأكبر الفلاسفة الألمان كانت
وهى كلها تنهل من معين واحد هو سمو العقل وسيادة القانون على إرادة الأفراد سواء كانوا من الحكام أو المحكومين, وهى كلها تنتهى إلى نتيجة واحدة هى أن العدل هو أسمى القيم وأنه أسمى من الحرية
وجدير بالذكر أن مشكلة القانون الطبيعى قد عرفها فلاسفة الإسلام تحت إسم مشكلة الحسن والقبيح العقليين
وقد إنقسم الرأى فى هذه المشكلة بين ثلاثة إتجاهات: الأول إتجاه عقلى يتزعمه واصل بن عطاء وهو إتجاه المعتزلة, والثانى إتجاه غير عقلى وهو إتجاه الأشاعرة, والثالث إتجاه وسط ويتزعمه الماتريدية
وإذا كان جون لوك لم يتخط أفلاطون وأرسطو وتوماس الأكوينى, إلا أنه الفيلسوف الذى أثر بصفة مباشرة فى ثقافة الآباء المؤسسين للولايات المتحدة. ومازال رجال السياسة فى الولايات المتحدة يتحدثون حتى الآن عن حقوق الإنسان التى منحها الله للإنسان والتى لا يجوز التنازل عنها فى أى دستور أو عقد إجتماعى
وأخيرا عرفت نظرية القانون الطبيعى تعبيرا جديدا على يد فيلسوف ألمانيا الأشهر (إيمانويل كانت) والذى تؤرخ الفلسفة الحديثة بإسمه, فيقال ما قبل كانت وما بعد كانت وهو صاحب إصطلاحات سلطان الإرادة, والأمر الأخلاقى المطلق, والعقل الخالص, والعقل العملى, والعقل الخالص العملى
ومبدأ سلطان الإرادة هو المبدأ الأسمى للأخلاق, الذى يحافظ على كرامة الإنسان. فالإرادة هى مصدر الأمر الأخلاقى المطلق. والإنسان الموجود فى العالم العقلى
والإرادة بهذا المعنى هى الإرادة الخالصة. ولكن إذا كانت الإرادة خالصة فما هى فائدة الإلتزام؟
لن تكون للإلتزام فائدة لأنى لو كنت هكذا إرادة خالصة فتصرفاتى ستكون دائما مطابقة لسلطان الإرادة
ولكن للرد على هذا التساؤل فإن الإلتزام الأخلاقى يبدو لازما, لأن الإنسان الذى يعيش فى العالم الحسى تكون إرادته متأثرة دائما بالرغبات الحسية. وخلاصة نظرية كانت أن إرادة الإنسان الموجود فى العالم الحسى, تخضع لإرادة الإنسان الموجود فى العالم العقلى, وهو فى الحالتين إنسان واحد
والأمر الأخلاقى المطلق الأول هو أن يتنازل الإنسان عن حريته فى أن يفعل ما يشاء, ويخضع لحكم القانون, ويتصرف دائما بالطريقة التى يعامل بها الإنسانية سواء فى شخصه أو شخص غيره بإعتبارها هدفا فى ذاتها وليست فقط مجرد وسيلة لتحقيق مصالحة ورغباته الحسية
وأهم ما قام به كانت فى الواقع, أنه أنهى التطابق بين القانون الطبيعى والقانون الإلهى, وعاد إلى فلسفة أرسطو حيث يكون القانون الطبيعى مرادفا للقانون العقلى فقط
وبعد عرض النظريات الفلسفية الكبرى التى أجابت على السؤال الذى ناقشه كل الفلاسفة على مر العصور, وهو لماذا يفقد الإنسان راضيا حريته المطلقة, ويقبل الخضوع لحكم القانون؟
فإننا نرد بأن العدل أسمى من الحرية وأن الحرية لم تكن أبدا مطلقة, وأن القانون أسمى من الفوضى, وأنه لا توجد حرية فى الإعتداء على الآخرين فى مشاعرهم ومقدساتهم
ولكننا نلاحظ أيضا أن الإساءة تلحق بمن صدرت منه, وأن الإساءة هى عمل فردى يتحمل مسئوليته من صدر منه هذا العمل, وليس المجتمع بأسره. فلا تزر وازرة وزر أخرى. والأجدر بنا أن نلاحق من صدرت منه هذه الإساءة أمام قضاء بلاده
ومازال القضاء هو الحصن الحصين لكل صاحب حق. ومازال القضاة هم أشرف وأطهر فئة فى كل المجتمعات الإنسانية على الإطلاق
ملحوظة: هذه مقتطفات من مقال منشور فى جريدة الأهرام المصرية لأستاذى الذى طالما تشرفت دائما بكونى أحد تلاميذه العلامة فقيه القانون المدنى المصرى الأستاذ الدكتور/ سمير عبد السيد تناغو أستاذ ورئيس قسم القانون المدنى بكلية الحقوق جامعة الأسكندرية